إذا
علقت سعادتك بأشياء مادية كبيت أو لباس أو أكل أو مكان أو سفر أو ثروة ,
أو بشيء شبه مادي ككثرة الأصدقاء , فتأكد بأن الملل سيطاردك ..
لكن الذين يعيشون حياة روحية ونفسية سليمة بالرغم من أن وضعهم المادي قد
يكون أقل من غيرهم إلا أنهم لا يحسون بالملل , فتجد المتصوف أو العابد يبقى
سنين طويلة في صومعته ولا يشعر بالملل ..
فالذي
يعيش الحياة وتركيزه على الجوانب المعنوية من تفكير وتحليل وابتكار
وروحانيات وعواطف ومشاعر وإنسانيات هم أقل مللاً من الذين يعيشون حياتهم
على الجانب المرئي والمادي فقط , لأن المادة لا تقدم شيئا , فلو قمت بترتيب
مكان الجلوس وتنظيفه.. ستجد نفسك تتساءل: وماذا بعد؟ وما الذي سيدور في
ذلك المجلس حتى يستحق التنظيف والترتيب ؟؟.. هذا لأن الإنسان هو الأهم
وروحه أهم من جسمه .
والحضارة المادية الغربية مثلا يكثر بها الملل والإدمان والانتحار بينما
لا تجد هذا في الدول المتخلفة ؛ السبب في ذلك أنهم وصلوا لتشبع من
الماديات فهم يملكون المال والخدم والحريات التي كانوا يظنون بأنها سبب
عدم سعادتهم, فتفككت عندهم الارتباطات وصار الشخص حُراً يفعل ما يشاء
ويمارس الحب مع من يشاء ويعبر عما يريد , ومع ذلك يطاردهم الملل.
والملل هو نعمة بشكل عام , لأنه دافع للإنسان يستحثه لعمل الأفضل , فالوضع
الاجتماعي المادي العادي والذي كان الغموض يجمِّلُه , بعد أن وصلوا له
وانكشف غموضه لم يكن فيه شيء حقيقي , لكن الذي يتعامل مع الثابت وهو الله
سبحانه , لا ينتهي ؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يحيط بالله فلا يشعر بالملل
لأنه يعيش حلاوة ومتعة الإيمان الدائمة .
إن أول خطوة لعلاج الملل هو التوقف عن البحث في الأشياء الشكلية والمادية
ويتجه للناحية العقلية والشعورية , فيكسر الحواجز بينه وبين نفسه , فيبدأ
بالتحدث والتفكير والاهتمام بهذه الحالة حتى يضعف اهتمامه السابق , حتى
يصل لدرجة أنه يستطيع الجلوس في مكان واحد لوقت طويل دون يشعر بالملل ,
صحيح بأن المكان واحد ..لكن الأفكار متجددة , فالذين لا يهتمون
بالجوانب
المعنوية تجدهم يحبون التجديد , فيحبون تغيير الملابس ومتابعة الموضات
وتغيير الأماكن ؛ لأنهم يركزون على المادة, بينما لو يكون هناك مجموعة
فلاسفة , ستجدهم يطوفون العالم وهم جالسين في أماكنهم .
وبالمقابل
تجد الناس يزورون أماكن سياحية ولكنهم لا يرون شيئا مهما إلا إذا كان
شيئا بارزا , وتجدهم يشعرون بالملل من هذا المكان و لا يعودون له مرة أخرى
, بينما الذي يجد متعة عقلية قد يقف عند معْلَم واحد ويتأمله لسنوات
ويبحث فيه , وكما يقول أحد الفلاسفة :
"يكفيني
فقط الجزء الخلفي من حديقة منزلي لأقضي فيه بقية عمري" , لأنه يتأمل
ويبحث ويراقب الزهور والحشرات , ولكن نظرة واحدة من أحد التافهين لهذه
الحديقة تشعره بالملل و لا يعاود النظر إليها مرة أخرى .
والتغيير عبارة عن دافع روحي ولكن العقل يترجم هذه الحاجة الشعورية
بشكل خاطئ , فيربط ملله بشيء مادي ويبحث عن هذا الشيء ويتعب نفسه وربما
يصل له وربما لا , قال تعالى : (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم
يحسبون أنهم يحسنون صنعا)
إن روح الإنسان تبحث عن السكينة وهذا ما يشعر به المؤمن بالرغم
من أن نشاطاته قليلة , والمؤمن يستطيع أن يتحكم بنشاطاته بعكس الإنسان
المادي الذي يشعر وكأنه مدفوع للعمل , والمؤمن لا يقوم بعمل شيء إلا إذا
شعر بأنه مناسب فالأساس سلبي لأنه يعيش في سكينة ورضا بما قـدّره الله ,
ويؤدي ما يستطيع ..
والنفس
المطمئنة هي عكس النفس القلقة المتوثبة التي كلما ذهبت إلى مكان شعرت
بالملل ورغبت في البحث عن مكان آخر ودائماً تبحث , أما النفس التي وصلت
للإيمان فقد استقرت.
يمكن للآلام الجسمية أن ينساها الإنسان بعكس الآلام النفسية التي لا
تنسى , وحتى الأفراح تنسى لأنها هي الأصل فالأصل أن الإنسان سعيد . حينما
يتكلم الناس عن المآسي تجدهم يتكلمون عنها من ناحية مادية كعدم وجود
الكهرباء والطعام .. ولكن لو تنظر في السبب الحقيقي الذي يتعبهم ستجده
الجانب النفسي , فلو كانوا مليئين بالمحبة والثقة بالنفس لهانت عليهم
أشياء كثيرة وتحملوا , قال الشاعر :
النفس من خيرها في خير عافية **** والنفس من شرها في مرتع وخم
فالناس
مصرون أن المادة هي كل شيء , فيسألون عن وضع المنزل والعمل والصحة والمال
وكأن سعادتك هي بالأشياء المادية وهذا مقياس غير صحيح , بدليل أنه يوجد
هناك أناس يعيشون بوسط النعيم ولكنهم تعساء بسبب الملل أو فقد أحد عزيز أو
بسبب شعور بالكبت ..وتجد أناس من أثرياء العالم إلا أن المادة لم تضف لهم
شيئا , وقد تجد أناس حالتهم المادية أقل منهم بكثير ولكنهم يعيشون سعادة
أكثر منهم .
فكل
إنسان هو عبارة عن شخصين , الأول يطمح لأن يصل للثاني , وكلما اقتربت من
الثاني كلما اقتربت للسعادة وكلما ابتعدت عنه كلما زاد توهانك ؛ لأنه هو
الذي يملكها , فالأول أرضي والآخر سماوي .
الإنسان مادة وروح وليس روحاً فقط ولا مادة فقط ، و الأصل هو الجانب
الروحي ، فيا مرحبا بالمادة المنطلقة من الإشباع المعنوي والروحي ، أما أن
نهين الجانب المعنوي لصالح المادة نكون قد
ظلمنا
المهم لصالح الأقل أهمية وظلمنا الأصل خدمة للفرع والجوهر لأجل العَرض ،
حتى متعة المادة نفسها تتضرر إذا كنا لا نهتم بالجانب المعنوي ، أما
الجانب المعنوي فلا يضره إذا لم ننجح في الجانب المادي
مع خالص تحياتى